فصل: فَصْل في المبايعة على قول الحق أينما كنا وألا نخاف فِي الله لومة لائم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في درجات النهي عن المنكر وشروط الأمر والنهي:

وَعَنْ أَبِي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فَإِنَّ لم يستطع فبلِسَانه فَإِنَّ لم يستطع فبقَلْبهُ وَذَلِكَ أضعف الإِيمَان» رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا من نبي بعثه الله فِي أمة قبلي إِلا كَانَ لَهُ من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثُمَّ تخلف من بعدهم خلوف يقولون مَا لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مُؤْمِن، ومن جاهدهم بلِسَانه فهو مُؤْمِن، ومن جاهدهم بقَلْبهُ فهو مُؤْمِن، لَيْسَ وراء ذَلِكَ من الإِيمَان حبة خردل». رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عَنْ الْمُنْكَر أَوْ ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثُمَّ تدعونه فلا يستجاب لكم». رَوَاهُ الترمذي، وَقَالَ: حديث حسن.
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فادخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فَقَالَ: «مَا هذا يَا صَاحِب الطعام ؟» فَقَالَ: أصابته السماء يَا رَسُول اللهِ. قَالَ: «أفلا جعلته فوق الطعام حَتَّى يراه النَّاس من غشنا فلَيْسَ منا».
فهَذَا نهي منه صلى الله عليه وسلم عَنْ منكر، هُوَ غش النَّاس فِي طعامهم وأجمعت الأمة على وجوب الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر.
وأَخْرَجَ الإمام أحمد فِي المسند أن الوليد بن عقبة أخر الصَّلاة مرة فقام عبد الله بن مسعود فثوب بالصَّلاة فصلى بِالنَّاسِ فأرسل إليه الوليد: مَا حَمَلَكَ على مَا صنعت أجاءك من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أمر فيما فعلت أم ابتدعت؟ قَالَ: لم يأتني أمر من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولم ابتدع ولكن أبى الله ورسوله عَلَيْنَا أن ننتظرك بصلاتنا وأَنْتَ فِي حاجتك.
قَالَ شيخ الإِسْلام رحمة الله: لابد من العلم بالمعروف والْمُنْكَر والتمييز بينهما. الثاني أَنَّهُ لابد من العلم بحال المأمور والنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأَمْر والنهي بالصراط المستقيم وَهُوَ أقرب الطرق إلى حصول المقصود ولابد من الرفق ولابد أن يكون حليمًا صبورًا على الأَذَى فإنه لابد أن يحصل لَهُ أذى فَإِنَّ لم يحلم ويصبر كَانَ مَا يفسد أَكْثَر مِمَّا يصلح فلابد مِنْ العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأَمْر والنهي، والرفق معه والصبر بعده.
وَقَالَ سفيان: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عَنْ الْمُنْكَر إِلا من كَانَ فيه خِصَال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل، عدل بما ينهى، عَالِم بما يأمر، عَالِم بما ينهى.
وَقَالَ عبد الملك بن عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز لأبيه: يَا أَبَتِ مَا يَمْنَعُك أن تمضي لما تريد من العدل فوَاللهِ مَا كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: يَا بَنِي إني إِنَّمَا أروض النَّاس رياضة الصعب إني أريد أن أجئ الأَمْر من العدل فأؤخر ذَلِكَ حَتَّى أُخْرِجَ معه طمعًا من طمع الدُّنْيَا فينفروا من هَذَا ويسكنوا لهذه.
وَيُشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الإِنْكَارِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَأهله وماله، فَإِنَّ خاف السب أَوْ سماع الكلام السيئ لم يسقط عَنْهُ والحزم أن لا يبالي لما ورد: «أفضل الجهاد كلمة حق عِنْدَ سلطان جائر». وقوله: «لا يمنعن أحدكم هيبة النَّاس أن يَقُولَ بحق إِذَا عَلِمَهُ».
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ رَحِمَهُ اللهُ: إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ لَهُ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ:
الأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلفه ضده.
الثَّانِيَة: أَنْ يَقِلَّ وَإن لم يزل من جملته.
الثالثة: أن يخلفه مَا هُوَ مثله.
الرابعة: أن يخلفه مَا هُوَ شر منه.
فالدَّرَجَتَانِ الأوليان مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةِ مَوْضِعُ اجْتِهَاد والرابعة محرمة، وليحزر الآمْر والناهي من أن يخالف قوله أَوْ يأمر بما لا يأتمر به.
رَأَيْنَاكَ تَنْهَى وَلا تَنْتَهِي ** وَتُسْمِعُ وَعْظًا وَلا تَسْمَعُ

فَيَا حَجَر الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى ** تَسَنُّ الْحَدِيدَ وَلا تَقْطَعُ

فقَدْ ورد عَنْ أَنَس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار: قَالَ: قُلْتُ: من هؤلاء؟ قَالَ: خطباء أمتك من أَهْل الدُّنْيَا ممن كَانُوا يأمرون النَّاس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون». وحتى لا يتعرض لسخرية النَّاس به واستهزائهم به وحتى تَكُون دعوته مقبولة.
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ** هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضَّنَى ** كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَإنْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ** بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ

آخر:
فَراكَ مِنَ الأَيَّامِ نَابٌ وَمِخْلَبُ ** وَخَانَكَ لَوْنُ الرَّأْسِ وَالرَّأْسُ أَشْيَبُ

فَحَتَّامَ لا تَنْفَكُّ جَامِحَ هِمَّةٍ ** بَعِيدَ مَرَامِي النَّفْسِ وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ

تُسَرُّ بِعَيْشٍ أَنْتَ فِيهِ مُنَغَّصٌ ** وَتَسْتَعْذِبُ الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُعَذَّبُ

تُغَذِّيكَ وَالأَوْقَاتُ جسْمَك تَغْتَذِي ** وَتَسْقِيكَ وَالسَّاعَاتُ رُوحَكَ تَشْرَبُ

وَتَعْجَبُ مِن آفَاتِهَا مُتَلَفِّتًا ** إِلَيْهَا لَعَمْرُ اللهِ فَعْلُكَ أَعْجَبُ

وَتَحْسِبُها بِالْبِشرِ تُبْطِنُ خُلَّةً ** فَيَظْهَرْ مِنْهَا غَيْرُ مَا تَتَحَسَّبُ

إِذَا رَضِيتَ أَعْمَتْكَ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى ** فَمَا ظَنُّ ذِي لُبٍّ بِهَا حِينَ تَغْضَبُ

وَفِي سَلْبِهَا ثَوبَ الشَّبَابِ دَلالَةٌ ** عَلَى أَنَّهَا تُعْطِي خِدَاعًا وَتَسْلِبُ

أَتَرْضَى بِأَنْ يَنْهَاكَ شَيْبُكَ وَالْحِجَا ** وَأَنْتَ مَعَ الأَيَّامِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ

والله أعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

.فَصْل في وجوب بغض ما يبغضه الله ورسوله:

قَالَ شيخ الإِسْلام رَحِمَهُ اللهُ: من لم يكن فِي قَلْبهُ بغض مَا يبغضه الله ورسوله من الْمُنْكَر الَّذِي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن فِي قَلْبهُ الإِيمَان الَّذِي أوجبه الله عَلَيْهِ فَإِنَّ لم يكن مبغضًا لشَيْء من المحرمَاتَ أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً.
والحاصل أن الإِنْسَان يأتي من ذَلِكَ بما يستطيع ولا يقصر فِي نصرة دين الله ولا يعتذر فِي إسقاط ذَلِكَ بالأعذار التي لا تصح ولا يسقط بها مَا أوجب الله عَلَيْهِ من أمر الله، وعَلَيْهِ بالأخذ بالرفق واللطف وإظهار الشفقة والرحمة فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مدار كبير عِنْدَ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر.
قَالَ الله تَعَالَى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ومن الحكم أن يدعو كُلّ أحد على حسب حاله وفهمه وقبوله وانقياده.
وَمِنَ الْحِكْمَةِ الدَّعْوَةُ بالعلم والبداءة بالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم وبما يكون قبوله أتم، والرفق واللين فَإِنَّ انقاد بالحكمة وإِلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وَهُوَ الأَمْر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
وليحذر من المداهنة فِي الدين، ومعناه أن يسكت الإِنْسَان عَنْ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وعن قول الْحَقّ وَكَلِمَة الْعَدْلِ: طَمَعًا فِي النَّاسِ وَتَوَقُعًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حُظُوظٍ الدُّنْيَا.
وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ لِعُمَر بِنْ صَالحٍ: يَا أَبَا حَفْصٍ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِيِهِ بَيْنَهُمْ مَثْل الْجِيفَةِ وَيَكُونُ الْمُنَافِقُ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ وَكَيْفَ يُشَارُ إِلَى الْمُنَافِقِ بِالأَصَابِعِ. فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ صَيروا أَمْر اللهِ فُضُولاً.
وَقَالَ: المُؤْمِن إِذَا رَأَى أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يَصْبِرْ حَتَّى يَأْمُرَ وَيَنْهى. قَالُوا: يَعْنِي هَذَا فُضُول. قَالَ: وَالْمُنَافِقِ كُلّ شَيْء يراه قَالَ بيده على فمه، أي صمت فَلَمْ ينه ولم يأمر. فَقَالُوا: نعم الرجل لَيْسَ بينه وبين الفضول عمل.
وقَدْ روي أن الجار يوم القيامة يتعلق بجاره ويَقُولُ: ظلمني. فيرد عَلَيْهِ بأنه مَا ظلمه ولا خانه فِي أَهْل ولا مال فيَقُولُ الجار: صدق إِنَّهُ لم يخني فِي أَهْل ولا مال ولكنه وجدني أعصي الله فَلَمْ ينهني. هَذَا الأثر بالمعنى. وَرُوِيَ حديث آخر: ويل للعَالِم من الجاهل حيث لا يعلمه.
وَقَعْنَا فِي الْخَطَايَا وَالْبَلايَا ** وَفِي زَمَنِ انْتِقَاصٍ وَاشْتِبَاهِ

تَفَانَى الْخَيْرُ وَالصُّلَحَاءُ ذَلُّوا ** وَعَزَّ بِذُلِّهِمْ أَهْلُ السَّفَاهِ

وَبَاءَ الآمِرُونَ بِكُلِّ عُرْفٍ ** فَمَا عَنْ مُنْكَرٍ فِي النَّاسِ نَاهِ

فَصَارَ الْحُرُّ لِلْمَمْلوكِ عَبْدًا ** فَمَا لِلْحُرِّ مِنْ قَدْرٍ وَجَاهِ

فهَذَا شَغَلُهُ طَمَعٌ وَجَمَعٌ ** وَهَذَا غَافِلٌ سَكْرَانُ لاه

آخر:
إِذَا بِالْمَعْرُوفِ لََمْ أُثْنِ صَادِقًا ** وَلَمْ أَذْمُمِ الْجُبْسَ اللَّئِيمْ الْمُذَمِمَّا

فَقِيمْ عَرَفْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِاسْمِهِ ** وَشَقَّ لِيَ اللهُ الْمَسَامِعَ وَالْفَمَا

آخر:
أَرَى الإِحْسَانَ عِنْدَ الْحُرِّ حَمْدًا ** وَعَنْدَ النَّذْلِ مَنْقَصَةً وَذَمًّا

كَقَطْرٍ صَارَ فِي الأَصْدَافِ دُرًا ** وَفِي نَابِ الأَفَاعِي سُمًّا

آخر:
إِذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعَةً ** وَمَا الْعَيْب إِلا أَنْ أَكُونَ مُسَابِبُهْ

وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَةٌ ** لَمَكَّنْتُهَا مِنْ كُلِّ نَذْل تُجَاوِبُهْ

آخر:
مَتَى تَضَعُ الْكَرَامَةَ فِي لَئِيمٍ ** فَإِنَّكَ قَدْ أَسَأْتَ إِلَى الْكَرَامَةْ

آخر:
لا تَلْطَفَنَّ بِذِي لوُمِ فَتُطَّغِيَهُ ** أَغْلظْهُ يَأْتِيكَ مِطْوَاعًا وَمِذْعَانَا

إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ** وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَا لانَا

والله أعْلَمُ. وَصَلَّى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

.فَصْل في المبايعة على قول الحق أينما كنا وألا نخاف فِي الله لومة لائم:

عَنْ عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بايعنا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم على السمَعَ والطاعة فِي العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة عَلَيْنَا وعلى أن لا ننازع الأَمْر أهله إِلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تَعَالَى فيه برهان وعلى أن تَقُول بالحق أينما كنا لا نخاف فِي الله لومة لائم. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وغيره.
وأَخْرَجَ أحمد وغيره مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص: «إِذَا رَأَيْت أمتي تهاب الظَالِم أن تَقُول لَهُ: إِنَّكَ ظَالِم فقَدْ تودع مِنْهُمْ». ولَقَدْ كَانَ سلفنا الصالح الكرام لَهُمْ مواقف عظيمة شريفة ونوادر طريفة وقصص غريبة وحكايات عجيبة دالة على صدق إيمانهم وقوة يقينهم وشدة ورعهم فكَانُوا لا يخشون فِي الله لومة لائم أَوْ كلمة مداهن أَوْ فرية مفتر أَوْ قوة ظَالِم بل يجاهرون بالحق بكل صراحة وينطقوا بالصدق وإن غضب الخلق ويأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر فِي أشد المواقف وأحرجها.
وإليك مَا كَانَ من موقف الصحابي الجريء أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَ مروان ابن الحكم أمير من قبل معاوية بن أبي سفيان فمن السنة المأثورة والطريقة المعروفة من فعله صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شَيْء يبدأ به الصَّلاة. ثُمَّ يَنْصَرِف فَيَقُوم مُقَابِل النَّاس والنَّاس جُلُوس عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهُمْ بتقوى الله ويأمرهم بحلال الله وينهاهم عَنْ حرامه، ثُمَّ ينصرف، قَالَ أَبُو سعيد: فَلَمْ يزل النَّاس على ذَلِكَ حَتَّى خرجتُ مَعَ مروان وَهُوَ أمير الْمَدِينَة فِي عيد الأضحى أَوْ الفطر فَلَمَّا أتينا المصلى إِذَا منبر بناه كثير بن الصلت التابعي الكبير والمولود فِي الزمن النبوي.
فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي وفيه مخالفة للسنة الصحيحة والْعَمَل المأثور عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فجذبت بثوبه ليبدأ بالصَّلاة قبل الخطبة فجذبَنِي فارتفع على المنبر فخطب قبل الصَّلاة. فقُلْتُ لَهُ ولأصحابه: غيرتم وَاللهِ سنة رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده فأنهم كَانُوا يقدمون الصَّلاة على الخطبة فِي العيدين. فَقَالَ مروان: يَا أَبَا سعيد قَدْ ذهب مَا تعلم من تقديم الصَّلاة على الخطبة فِي العيدين. فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ والله خَيْر مِمَّا لا أَعْلَمُ.
لأن الَّذِي أَعْلَمُ طَرِيقَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أمرنا باتباعه والتأسي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَقَالَ مروان معتذرًا عَنْ ترك السنة: إن النَّاس لم يكونوا يجلسون لَنَا بعد الصَّلاة فجعلتها قبل الصَّلاة.
فتأمل هَذَا الموقف المشرف الَّذِي وقفه أَبُو سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكيف جذب مروان بثوبه وَقَالَ لَهُ غيرتم: وَاللهِ ولم يخف صولة الإمارة وجاه الحكم وجاهر بالحق وأنكر البدعة وأمر بالسنة على رؤوس الأشهاد من النَّاس فحفظه الله ونصره وأيده وأعزه وصدق الله حيث قَالَ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}.
وروي أن ضبة بن محصن العنزيّ قَالَ: كَانَ عَلَيْنَا أَبُو مُوَسى الأشعري أميرًا بالبصرة فكَانَ إِذَا خطبنا حمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأنشأ يدعو لعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فغاظني ذَلِكَ فقمت إليه فَقُلْتُ: أين أَنْتَ من صاحبه تفضله عَلَيْهِ فصنع ذَلِكَ جُمُعًا.
ثُمَّ كتب إلى عُمَر يشكوني يَقُولُ: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض فِي خطبتي فكتب إليه عُمَر: أن أشخصه إِليَّ فأشخصني إليه فقدمت فضربت عَلَيْهِ الْبَاب، فَقَالَ: من أَنْتَ فَقُلْتُ: أَنَا ضبة. فَقَالَ: لا مَرْحَبًا ولا أهلاً. قُلْتُ: أما المرحب فمن الله، وأما الأَهْل فلا أَهْل لي، ولا مال فبما استحللت يَا عُمَر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته، ولا شَيْء آتيته، فَقَالَ: مَا الَّذِي شجر بينك وبين عاملي، قَالَ: قُلْتُ: الآن أخبرك به، أَنَّهُ كَانَ إذا خطبنا حمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أنشأ يدعو لَكَ فغاظني ذَلِكَ منه، فقمت إليه فَقُلْتُ لَهُ: أين أَنْتَ من صاحبه، تفضله عَلَيْهِ، فصنع ذَلِكَ جُمُعًا.
ثُمَّ كتب إليك يشكوني، قَالَ: فاندفع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ باكيًا، وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ وَاللهِ أوفق منه وأرشد فهل أَنْتَ غافر لي ذنبي يغفر الله لَكَ.
قَالَ: فَقُلْتُ: غفر الله لَكَ. قَالَ: ثُمَّ اندفع بَاكيًا، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لليلة من أَبِي بَكْرٍ ويوم، خَيْر من عُمَر وآل عُمَر.
وبعث الحجاج الظَالِم المشهور إلى الحسن فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُول: قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدرهم والدينار. قَالَ: نعم. قَالَ: مَا حَمَلَكَ على هَذَا؟ قَالَ: مَا أخذ الله على الْعُلَمَاء من المواثيق: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} قَالَ: يَا حسن أمسك عَلَيْكَ لسانك وَإِيَّاكَ أن يبلغني عَنْكَ مَا أكره فأفرق بين رأسك وجسدك. نعود بِاللهِ من الظلمة وأعوان الظلمة من أمثال الحجاج.
الظُّلْمُ نَارٌ فَلا تَحْقِرْ صَغِيرَتَهُ ** لَعَلَّ جَذْوَةَ نَارٍ أَحْرَقَتْ بَلَدَا

ثُمَّ تطاول الزمن ومضت فترة منه فاندرس هَذَا الواجب وعفت أثاره وامحت معالمه وانطوت أخباره وداهن النَّاس بَعْضهُمْ بَعْضًا وجبن النَّاس عَنْ المصارحة للولات فِي المخالفات إِلا نوادر مروا خلال القرون الأولى أما نَحْنُ فصَارَت شجاعتنا وصلابتنا وإنكاراتنا حول مَا يتعلق بالدنيا، أما ما يتعلق بالدين فلَيْسَ عندنا من الإنكار إِلا التلاوم فيما بيننا إِذَا أمن بعضنا من بعض فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم.
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
قُلْ لِي مَتَى سَلِمَ الرَّسُولُ وَصَحْبُهُ ** وَالتَّابِعُون لَهُمْ عَلَى الإِحْسَانِ

مِنْ جَاهِلٍ وَمُعَانِدٍ وَمُنَافِقٍ ** وَمُحَارِبٍ بِالْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ

وَتَظُنُّ أَنَّكَ وَارِثًا لَهُمْ وَمَا ** نِلْتَ الأَذَى فِي نُصْرَةِ الرَّحْمَنِ

كَلا وَلا جَاهَدْتَ حَقَّ جِهَادِهِ ** فِي اللهِ لا بِيَدٍ وَلا بِلِسَانِ

مَنَّتْكَ وَاللهِ الْمَحَالَ النَّفْسُ فَاسْـ ** ـتَحْدِثْ سِوَى ذَا الرَّأْيِ وَالْحُسْبَانِ

لَوْ كُنْتَ وَارِثَهُ لآذَاكَ الأَوْلَى ** وَرَثُوا عِدَاهُ بِسَائِرِ الأَلْوَان

وقَدْ قيل: إن المنكرات أشبه بجراثيم الأمراض فِي تنقلها وانتشارها، والتأثر بها بإذن الله فَإِنَّ وجدت كفاحًا يحجر عَلَيْهَا فِي مكانها حَتَّى يقتلها ويبيدها سلم مَنْهَا موضعها، وسلم مَنْهَا مَا وراءه، وَإِذَا لم تجد كفاحًا وتركت وشأنها اتسعت دائرتها، وتفشت فِي جميع الأرجَاءَ وقضت على عناصر الحياة وعرضها للفناء والدمار.
ومن هنا كَانَ أثر المنكرات غير خاص بمرتكبيها، وكَانَ الساكتون عَلَيْهَا عاملين على نشرها وإذعانها، وبهَذَا الموقف السلبي يكونون أهلاً لحلول العقاب بِهُمْ وإصابتهم بما يصاب به المباشرون لها.
ومِمَّا يدل على هَذَا قوله تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد فِي آخر رسالة لَهُ تتضمن الحث على الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر: قفا نبك على رسوم علوم الدين والإسلام الَّذِي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يَا للأسف على منام الْقُلُوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على للإسلام بما لا حقيقة له.
لقد انطمس المعنى وذهب اللب وما بقي إلا قشور ورسوم اكتفى كثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعلموا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم بذكر فضله وعظمته وإيضاح أسراره وحكمه وغرس العقيدة الحقة فِي قُلُوبهمْ فهَذَا واجب الْمُسْلِمِين بَعْضهُمْ لبعض كُلّ عَلَى قَدْرِ استطاعته ومقدرته. اهـ.
وقوله صلى الله عليه وسلم فِي حديث جابر: «أوحى الله عَزَّ وَجَلَّ إلى جبريل عَلَيْهِ السَّلامُ أن أقلب مدينة كَذَا وَكَذَا بأهلها، قَالَ: يَا رب إن فيهم فلانًا لم يعصك طرفة عين. قَالَ: فَقَالَ: أقلبها عَلَيْهِ وعَلَيْهمْ، فَإِنَّ وجهه لم يتمعر فِي ساعة قط».
وذكر الإمام أحمد عَنْ مالك بن دينار قَالَ: كَانَ حبر من أحبار بَنِي إسرائيل يغشى منزله الرِّجَال والنساء فيعظهم ويذكرهم بأيام الله فرأى بعض بنيه يغمز النساء فِي يوم فَقَالَ: مهلا يَا بَنِي فسقط من سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقتل بنوه.
فأوحى الله إلى نبيهم أن أخبر فلانًا الحبر: أني لا أَخْرَجَ من صلبك صديقًا أَبدًا مَا كَانَ غضبك إِلا أن قُلْتَ: مهلا يَا بَنِي.
إذا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن الانتقام إِذَا وقع لَيْسَ هُوَ أخذًا للبرئ بجريمة المذنب كما يظن البعض، وإنما هُوَ أخذًا للمذنب بجريمة ذنبه، فالذنب ذنبان: ذنب يصدر عَنْ شخص، وَهُوَ الْفِعْل نَفْسهُ، وذنب يصدر عَنْ من يعلم هَذَا الذنب، وَهُوَ يقدر على مكافحته.
ثُمَّ هُوَ يبعد نَفْسهُ عَنْ مكافحة هَذَا الذنب طمعًا فِي مال أَوْ مكانة وبذَلِكَ يكون شريكًا فِي الْعَمَل على نشره.. اهـ.
وفي السُّنَن أن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حكم بكفر أَهْل مسجد بالكوفة قَالَ: واحد إِنَّمَا مسيلمة على حق فيما قَالَ: وسكت الباقون فأفتى بكفرهم جميعًا. اهـ. من الدرر السنية.
قُلْتُ: لأن الواجب عَلَيْهمْ أن يكذبوه ويقولوا لَهُ: كذبت بل هُوَ على باطل فالساكت شريك الفاعل لقدرته على الإنكار باللسان.
وَقَالَ سفيان: إِذَا أمرت بالمعروف شددت ظهر المُؤْمِن وَإِذَا نهيت عَنْ الْمُنْكَر أرغمت أنف المنافق.
لا يُدْرِكَ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِصٌ وَرِعٌ ** يُرَاقِبُ الله فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ

وَلَيْسَ تَأْخُذُه فِي اللهِ لائِمَةٌ ** إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي بَيْتِ إِنْسَان

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا من حزبك المفلحين، وعبادك الصالحين الَّذِينَ أهلتهم لخدمتك وجعلتهم آمرين بالمعروف فاعلين لَهُ، وناهين عَنْ الْمُنْكَر، ومجتنبين لَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ مرضى الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.